النسخ:

بغرض إتمام الفصل النهائي من الحلقة الثالثة في عمل "سلافيون وتتار"، "معهد الاستبدال"، نعمل حاليا على خطين متوازيين في البحث: اللغات السياسية-اللغة التركية على وجه الخصوص، وتقلبات خطوطها وألفاظها خلال القرن الماضي-ونوع من الأدب يسمى "مرايا الأمراء" (or speculum principum / fürstenspiegel).

 

"اللسانيات الطويلة الساقين" يمثل مقتربا لغويا، حسيا، إن لم نقل غريبا، يذكرنا بواقع أن اللغة هي وسيلة مقاومة سياسية وجسدية، فيما يمثل "مرايا الأمراء" فنا للحكم على مستوى رفيع يتوسل التعفف اللفظي والزهد فيه. ولئن كان البحث الأول مثابة احتفال بهيج بلغة العامة، إلا أن البحث الثاني يحشر اللغة المقدسة في النص التاريخي، ليصنعان معا نوعا من الجدلية المتقابلة أشبه ما تكون بمفارقة المجاز الكلاسيكي الذي يفرق بين الأم والعاهرة.

 

 

لسانيات طويلة الساقين

 

عروضنا الأخيرة Beyonsense,MoMA, Khhhhhhh,Moravian Gallery, Brno, Behind Reason, Künstlerhaus Stuttgart, Long Legged Linguistics at Art Space Pythagorion, Samos) والمنشورة Khhhhhhh (Mousse/Moravian Gallery 2012)، أمعنت النظر في الحنجرة التي يحجبها اللسان، ليس بسبب من قدرته على تحرير الأصوات فقط، بل أيضا بسبب قدرته على تلويث المقدس.

 

 

نحاول في لسانيات طويلة الساقين اكتشاف أبجدية السياسة فضلا عن الرسائل الخاصة التي يمكن لحظها في التجارب الترحيبية والحسية الشفوية. عدد كبير من الحالات المعبرة في هذا المجال يتعلق باللغة التركية والإسلام، سواء في القوقاز السوفياتي أو في آسيا الوسطى، حيث ساهمت جحافل الجيوش في تبديل حروف الأبجدية في اللغة لثلاث مرات على الأقل خلال القرن العشرين وحده.

 

مسار الحروف الأبجدية ترافق دوما مع مسارات الأمبراطوريات والمذاهب: الأبجدية اللاتينية مع الكنيسة الكاثوليكية، العربية مع الإسلام والخلفاء، -هذا من دون ذكر الأبجدية السيريلية، التي ترافقت مع تأثير الكنيسة الأرثوذوكسية والاتحاد السوفياتي طردا. والنتيجة: ليست الشعوب أو الأمم هي التي تحررت بفعل هذا المسار، بل الفونيمات الصوتية المتولدة من محاولات مقاومة احتواء وكبح جماح الشعوب والأمم.  

 

 

مرايا الأمراء

 

مرايا الأمراء هي نوع من الكتابة السياسية التي كانت متداولة في القرون الوسطى، واستمرت ملحوظة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. وكانت مثابة محاولة لرفع فكرة الدولة إلى مرتبة الإيمان الديني. حين كان معظم الجهد منصبا على الدراسات الفقهية والدينية، شكلت هذه النصوص مساحة معتبرة لمناقشة فن الحكم. اليوم نحن نعاني من النقيض تماما: علمانية محمومة تريد أن تعرف كل شيء.

 

غالبا ما كانت هذه المرايا تسمى بأدب النصح، وقد ألهمت أولياء العهود، وكانت معروفة في بلاد المسلمين والمسيحيين على حد سواء (أمير ميكافيللي واحد من هذه المرايا التي عرفت على نطاق واسع). اليوم، ثمة عدد وافر من المعلقين السياسيين، إنما ثمة افتقاد ملحوظ للذكاء، وثمة سيادة لخطاب فصيح يحاول أن يؤدي دور الإيمان، اللامادي، أو ما يدعوه رودولف أوتو "الآخر المقدس"، في الحياة العامة. الكتابة التي تخترق المجتمعات المعاصرة هي نوع من الهوس السيلاني بكتب تحسين الحظوظ الشخصية: وبدلا من نشر كتب من قبيل "كيف تتزوج (ين) مليونيرا (ة) أو كيف تخسر (ين) سبعة كيلوغرامات في أسبوع كانت مرايا الأمراء تعرض لنا النصائح والأمثلة والأفكار التي تمكننا من إدارة أمة، من الاقتصاد إلى القوانين، ومن علم الفلك إلى هندسة الزراعة.  

 

 

أعمال - 2014-2015

 

ثمة التزامات نعمل على إنجازها في 2014-2015، ومن ضمنها معرض "جيران" في متحف إسطنبول الحديث، ولكتور (LEKTOR) في (KUNSTHALLE) بزوريخ (أنظر أدناه)، كما قمنا بإنتاج عمل سمعي يستند إلى مقاطع من كوتادجو بيليغ (وترجمتها تعني حرفيا: الحصافة المُسعدة) وقمنا باعتماد أعضاء النطق بوصفها اللاعب الرئيسي في هذا العمل -اللسان والأنف والحنجرة والأذن والشفاه.

 

 

كتب يوسف خاص حاجب مثنوي كوتادجو بيليغ أو (مثنوي الحصافة المُسعدة)، في القرن الحادي عشر في كاشغار-التي تعرف اليوم بإقليم كزينجيانغ الإيغوري في غرب الصين-وهذا المثنوي يعتبر بحق واحدا من روائع أدب النصح (مرايا الأمراء). وتدور أحداثا على ألسنة أربع شخصيات - مفاهيم مجردة-العدل، الثروة، الفطنة والقناعة. والمجادلات التي تدور بين هذه الشخصيات-المفاهيم تشكل نوعا نادرا من الجدل السقراطي في التراث الإسلامي الموحد.

 

مثنوي كوتادجو بيليغ (مثنوي الحصافة المُسعدة) يقيم توازنا دقيقا بين التوحد والاجتماع، وبين النفس والأمة، وكان من شأنه، أي المثنوي، أن وضع أخلاق الحكم والأدب التركيين على قدم المساواة مع الكتابات المماثلة بالعربية والفارسية. وقد يكون من المثير للاهتمام أن نكتشف أنه يشكل الوجه الآخر، لمبادرة أتاتورك التي قضت باعتماد الحرف اللاتيني في اللغة التركية، أو ما يدعى اصطلاحا (الثورة اللغوية). يصعب إيضاح أهمية مثنوي كوتادجو بيليغ لغير الأتراك، لكنه، بمعنى ما، يشبه شاهنامة الفردوسي في اللغة الفارسية، وبيوولف بالإنكليزية، والإلياذة في اليونانية.

 

بالنسبة للعمل السمعي لكتور (LEKTOR)، فهو عبارة عن مقاطع مأخوذة من مثنوي كوتادجو بيليغ، وتم تسجيلها بلغتها الإيغورية الأصلية مع ترجمة مسموعة (voice-over) باللغات المحلية بحسب مكان العرض (التركية في إسطنبول، الألمانية في زوريخ...). الترجمة المسموعة، وهي رتيبة بعض الشيء، مستوحاة من تجربة في الترجمة الصوتية تسمى "ترجمة غافريلوف" وهي طريقة في الترجمة شائعة في بولندا وروسيا. اللغة الأصلية تبقى مسموعة، وأحيانا على مستوى الترجمة الصوتية نفسها. والواقع أن تشغيل الشريطين الصوتيين في وقت واحد، رغم طبيعته المشوشة، يعطي إيهاما، أو إيحاء بأصالة العمل (وهذه الطريقة تعتمد غالبا في ترجمة الأخبار والأفلام الوثائقية).

 

 

رافق عرض هذا العمل في إسطنبول عرض تجهيز يحمل عنوان: أرجوحة الأنف (NOSE TWISTER)، وهو عبارة عن متكأ للجلوس ونشيد لاستذكار ما أهمله "النجاح الكارثي" الذي تمثل بتغيير الحروف الأبجدية في بدايات تشكل الجمهورية التركية. إذ، وبسبب من افتقاد الأبجدية اللاتينية لتصويت (نغ) الأنفي، تم إسقاط هذا الحرف ببساطة من اللغة التركية الحديثة، رغم أنه بقي ملفوظا وشائعا على لسان أهل الأناضول وإيغوريا.

 

 

بحث

 

البحث الذي شمل إسطنبول وإقليم كزينجيانغ، وضعنا في مواجهة كافة الاحتمالات اللغوية. فمن جهة قمنا بالتنقيب في جذور اللسان التركي والدراسات المتعلقة به انطلاقا من اللغة الإيغورية التي تستمد اللغة التركية جذورها منها، وصولا إلى العربية باعتبار أن اللغة التركية المعترف بها وطنيا اليوم ما زالت قابلة لأن تكتب بالأبجدية العربية.

ومن خلال التعمق في البحث حول التاريخ البيبليوغرافي لكوتادجو بيليغ (الحصافة المُسعدة) في المكتبات والأرشيف -وهو النص الذي تمت ترجمته إلى عدد كبير من اللغات يتجاوز اللغات الأربع (السيريلية واللاتينية والعربية والصينية) فضلا عن الإيغورية التي كتب بها-اكتشفنا في ترجمات هذا النص ما يشبه المرايا المقعرة إن صح التعبير التي تزين زوايا هذه الرواية المقنعة من الجوانب كافة.

 

لقرون عديدة شكلت المنطقة التي تقع إلى شرق صولجان الحضارة الإسلامية في إقليم كزينجيانغ مسرحا لتعايش الإسلام مع أديان أخرى، كالطاوية والهندوسية والبوذية، وهو الأمر الذي سمح بتولد مرونة إيمانية ومفاهيمية تصل أحيانا إلى حدود الإباحية، وساهم الحظر الشامل الذي فرضه الاتحاد السوفياتي على طقوس العبادات باسم التقدم في المحافظة على هذه الممارسات الاجتماعية من دون تعمد أو قصد مسبق. 

 

اهتمامنا يكمن في تلك الحالات التي تشوبها التعقيدات المتشابكة، وتخترقها الهويات المختلفة والتي يشكل اشتباكها واختلاطها نوعا من الظلال الرمادية التي تجاور الأبيض والأسود السياسيين، ما يسمح بتفتح الحكمة والحصافة. إقليم كزينجيانغ يمثل واحدا من الأمثلة النادرة على صدام الأيديولوجيتين الكبريين، الشيوعية والإسلام، اللتين حكمتا القرن العشرين وبدايات هذا القرن، من دون ساطة من الغرب. بالنسبة للصين، الإسلام يأتي من الغرب-وليس من الشرق كما هي الحال بالنسبة للعالم الغربي. ولا شك في أن هذه التعددية ساهمت في انتقال الصين السريع إلى مسار التطور والنمو وتعبيد الطريق نحو ترك أثرها في العالم كله.

سيرة الفنان

سلافيون وتتار هم زمرة أصدقاء متآلفين يحبون الجدل ويركزون على منطقة تمتد من شرق جدار برلين السابق وتصل إلى غرب سور الصين العظيم في المنطقة المعروفة بأوراسيا. عملهم المشترك يعتمد عدة وسائط ميديا، واختصاصات، وطيف واسع من الناشطين الثقافيين يركزون على مدار التأثيرات بين السلافيين والقوقازيين وشعوب آسيا الوسطى الذي غالبا ما يتم تجاهله.


test